فتيات رومانيا أم فتيات إسبانيا
منتصف سنة 2025، الشمس ساطعة، نسمة خفيفة تداعب وجوه الجزائريين وهم عائدون من المساجد بعد أداء صلاة العيد. التهاليل والتكبيرات بعثت البهجة في نفوس الأطفال في زيهم الأبيض الجميل. السكاكين مشحوذة جيدًا، الصحون والأواني والدلاء منصوبة استعدادًا لذبح كبش العيد، والنسوة على قدم وساق لتنظيف الدوارة وتنظيف البوزلوف بعد أن انفض الجميع من حول صينية القهوة والكعك بنكهة السمسم وحبة الحلاوة.
أنغام: "مزينو نهار اليوم، صحة عيدكم، مزينو نهار اليوم، مبروك عيدكم" تملأ الشوارع. كانت هذه أجواء العيد التي تتكرر كل سنة.
صياح المواشي كان يملأ الحي: "باع باع بع بع بعبع..." عمي الجيلالي اشترى نعجة، محمد اشترى كبشًا، كمال اشترى خروفًا، خالتي ملوكة اشترت حولية، كل الجيران علموا بما يودون أن يضحوا به.
صراخ عبد الرحيم قد وصل إلى أقصى بقاع الأرض تعبيرًا عن فرحته:
– غادي نشرو كبش رومانيا، غادي نشرو كبش رومانيا، غادي نشرو كبش إسبانيا...
يسأله سفيان مستغربًا:
– ولماذا كبش رومانيا؟ ما بها كباشنا؟
– يقول أبي إنها أفضل من كباشنا. هناك في أوروبا يعتنون بها جيدًا، يعاملون الخروف كما لو كان طفلًا، أفضل كبش إسبانيا، يغسلون صوفه بالشامبو... كبش الجزائر صوفه كله روث وتراب، بعق... بعق...
شعر سفيان بامتعاض شديد وراح يلوم والده من خلال صوته الداخلي:
لا أعرف ما الذي حدث لأبي، يبدو أنه تغير كثيرًا. لم يكن كذلك قبلاً، كان يحبنا جدًا ويفضلنا على نفسه. أكيد تغيرت مشاعره اتجاهنا، لم يعد يحبنا. لم يكن عليه إنجابنا أساسًا. كم هم أنانيون ومغفلون هؤلاء الراشدون! لو لم يكن أبي، لكنت طلبت منه أن يغادر البيت وليبحث عن طفل مغفل آخر مثله ليكون ابنه. لن أسكت عن الموضوع، سأكلم جدي ليجد حلًا. يبدو أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة.
على غير عادته، اقتحم سفيان المنزل دون سلام، تعلو وجهه تكشيرة الكبار. اصطدم بأمه دون أن يلتفت إليها. ابتسمت ضاحكة، ممسكة بسلة المواعين العملاقة كالجبل، بينما أنغام أغنية "عبد القادر يا بوعلام، ضاق الحال علي، داوي حالي يا بوعلام..." تنبعث من هاتفها الذكي:
– أين قبلة الماما يا خروفي الصغير؟
جاء رده سريعًا دون أن يلتفت إليها:
– ما بقا لا خروف ولا كبش، روحي نظفي كبشكم المتسخ، وقتها نهدرو.
هنا أطلق الكبش صيحة مدوية، وكأنه امتعض من سخرية الولد منه.
– جدي، أريدك أن تصدقني القول، ما الذي يجري بالضبط؟ أنت الشخص الوحيد الذي أثق فيه الساعة.
أنهى الجد تسبيحه، ثم وضع سبحته إلى جانب مصحفه على طاولة صغيرة بجانب رأسه:
– من الذي أغضب طفلي بهذا الشكل؟ أخبرني وسأعرف كيف أتعامل معه.
رمى سفيان جسده الصغير في حضن جده وقال بصوت متشنج:
– صديقي عبد الرحيم، سيذبحون خروفًا إسبانيًا، أو ربما رومانيًا للعيد. يقول إنه نظيف جدًا ومن طبقة راقية، يعامل كما لو كان طفلًا حقيقيًا. حتى أنهم ينعتون هؤلاء الخرفان بـ"الفتيات"! ماذا جرى لأبي؟ لا شك أنه لم يعد يحبنا!
– ولمَ تقول ذلك يا بني؟
– لا أقول ذلك بل ألتمسه. تعرف أنني لا أتكلم بدون وقائع. لقد جعلنا نضحي هذه السنة بكبش متسخ، بينما أغلبية الجيران يضحون بخرفان مستوردة ذات جودة عالية. لا شك أنه يود أن يسخر أصدقائي مني.
– لا، ليس الأمر كما تظن. لقد تعودنا منذ الصغر أن نربي الخرفان في مزرعتنا الكائنة في رويبة. نعتني بها هناك جيدًا: عشب أخضر، علف طبيعي من الشعير، ماء نظيف وهواء طلق.
– إذن، لم الخرفان متسخة؟
– لا تهتم للشكليات. إنه مجرد تراب كونها ترعى في المزرعة. لحومها من ألذ اللحوم في العالم أجمع. أما خرفان رومانيا، فهي نظيفة لأنها لا ترعى، لا تأكل عشبًا أخضرًا طازجًا، ولا تتمتع كل الوقت بحمام شمسي. وذلك ينعكس على طبيعة لحومها التي تقل جودتها، وبالطبع لذتها. زد على ذلك، يوم نذبح الكبش، سنسلخ جلده مع الصوف. لا نأكلهما. جدتك ماهرة في تنظيف الصوف لتغزل منه برنسا رائعًا لك تتباهى به في المناسبات.
زالت الغمة التي كانت تخيم على صدر الفتى، فانطلق إلى الحي لاعبًا لاهيًا، لا يعكر مزاجه أحد، ولا ينغص عليه منغص.
إلا أن ذلك لم يدم طويلًا، فمن العدم ظهر له عبد الرحيم فرحًا مترنمًا:
– نشري كبش إسبانيا وما نشريش كبش الفيرمة، نشري كبش رومانيا وما نشريش الكبش الغالي...
اجتمع كل أطفال الحي ليخبرهم عبد الرحيم أن سفيان سيضحون بكبش من المزرعة، بينما الحي أجمع اشترى من الخرفان المستوردة. راح الأطفال يصفقون ويهرولون وراء سفيان، بينما أطلق ساقيه للريح:
– كبش الزريبة، الزريبة! وين الهريبة؟ وين الهريبة؟...
اقتحم بيتهم بأعجوبة بعد أن نجا من لؤم هؤلاء الأشقياء، أقفل الباب وراءه واستلقى تحته وهو يلهث بعد أن تأكد أنه أحكم إغلاقه. هذه المرة، خرجت الأمور عن السيطرة فعلًا.
توجه إلى غرفة جده ودموعه كالسيل العرم على وجهه، يبكي بحرقة. لم يشأ أن يقاطع صلاة جده، فارتمى على ظهره حاضنًا إياه، وقد احمرت عيناه الصافيتان لتصبحا كالجمر، حتى شعره الأسود المنسدل أصبح أشعث أغبر.
أنهى الجد صلاته بعد الصلاة الإبراهيمية والتحية والتسليم، وقد هاله منظر حفيده، وحزت في نفسه دموعه، بل اغرورقت عيناه هو الآخر بالدموع.
– آه يا حبيبي، لا تبكِ، دموعك غالية على قلبي. تعلم أني انتظرت تسع سنين كاملة ليرزق الله والديك بك، أنت حفيدي الوحيد من ابني الوحيد. أريدك أن تكون رجلًا، لا تستسلم للتوافه، لا تدع أي شيء يغلبك، ما دامت هذه الدنيا لا تساوي جناح بعوضة.
ما إن وقعت عينا الصبي على الحلوى السمسمية بالفول السوداني حتى اختفت تلك الدموع، وأشرق ثغره بابتسامة مبتهجة، ومع ذلك، كانت لا تزال هناك لمسة حزن منكسرة على محياه. بين لحظة وأخرى، يشهق الولد شهقة خفيفة من شهقات الأطفال التي تلي البكاء الشديد.
سرد سفيان ما جرى بالتفصيل لجده. مهمه الجد وراح يحك ذقنه الذي كسته شعيرات بيض:
– سأحكي لك قصة ستجعلك تتمنى ثانية أن تكون في المكان الذي أنت فيه الآن، وتملك نفس الأب، ونفس الخروف "المتسخ".
منذ سنة ونصف، أمرت الحكومة بإخلاء الشارع من أي بائع عشوائي، وكانت تلك مهنة سمير، والد عبد الرحيم. ولأنه لم يجد عملًا آخر يعيل به أسرته، قرر سمير أن يركب قوارب الموت ليصل إلى الضفة الأخرى، علّه يظفر بفرصة أفضل للحياة. لكنه للأسف، لم يظفر بغير الموت. وجدوه في صبيحة اليوم التالي، وقد التهمت الأسماك المفترسة معظم جسده السفلي، إلا جهة من سرواله فيها جيب، والجيب فيه صورة لعبد الرحيم، وكأنها رسالة من الأقدار للطفل تقول له: لا تكرر غلطة والدك، البحر عميق ولن يضيق بجثة أخرى.
كما لم تضق قبلاً بجثث شباب جزائري لا حصر لها، ذوبتها الأملاح، كما ذوّب الحزن قلوب أمهات هؤلاء الضحايا.
أُصيب عبد الرحيم بعدها بصدمة عنيفة، أُدخل على إثرها إلى المصحة النفسية، ولأنه لم يستكمل علاجه نظرًا لظروف أسرته الصعبة، لا يزال إلى يومنا هذا تحت وطأتها، معتقدًا أن والده لا يزال حيًا، وفي كل مناسبة يستحضره كما لو كان بينهم حقًا.
لذلك يا بني، تخطَّ التوافه من الأمور، وأريدك أن تدعو عبد الرحيم لقضاء العيد معنا، هو وأسرته، ولتخبره أن والده سيحضر أيضًا، وإلا سيرفض الدعوة فهو لايزال يعتقد أنه حي يرزق. فهم كل سنة يُحرمون من شراء الأضحية، ومنحة الأرامل التي تمنحها الحكومة لأمه لا تكفي حتى لشراء الخبز.
حمد سفيان الله كونه يملك أبًا، ونسي موضوع الخروف الروماني أو الإسباني إلى الأبد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
كلامك يدل على مستواك